الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله. أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها. والغلو: مجاوزة الحد مدحًا أو ذمًا، والمراد هنا مدحًا. والقبور لها حق علينا من وجهين: 1- أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام، فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك. 2- أن لا نغلو فيها فتتجاوز الحد. وفي "صحيح مسلم" قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور، فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن، إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه. قوله: "الصالحين"، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم. قوله: "أوثانًا"، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل، فيكون الوثن أعم. ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنًا، وإن لم يكن على تمثال نصب، لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد. قوله: "تعبد من دون الله"، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله، لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإن قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: * * * روى مالك في "الموطاء"، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: "في "الموطأ""، كتاب مشهور من اصح الكتب، لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضًا كلام وبحث للإمام مالك نفسه. وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: "التمهيد" لابن عبد البر، وهذا - أعني: "التمهيد" - فيه علم كثير. قوله: "اللهم"، أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله. قوله: وقوله: "يعبد"، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة، لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله. وإنما سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك. قوله: "اشتد"، أي: عظم. قوله: "غضب الله"، صفة حقيقية ثابتة لله - عز وجل - لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه. وهذا تحريف للكلام عن مواضعه، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه، لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسًا، وحاشاه أن يكون كذلك، فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام، فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر. وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها: 1- غضب المخلوق حقيقته هو: غليان دم القلب، وجمرة ويلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق، فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: 2- أن غضب الآدمي يؤثر آثارًا غير محمودة، فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله، فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله. فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك، فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان، لأن الغضب يدل على القدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه، فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص. ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: فإن معنى {آسفونا}: أغضبونا، فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرًا مترتبًا عليه، فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام. واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله، فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة، فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل. قوله: وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟ الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل وثنًا، بل إنه حمي بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنًا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنًا. قال ابن القيم في "النونية": فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنًا، ولكن قد يعبدون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدعائه عند قبره، فيكون قد اتخذه وثنًا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنًا. * * * ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهد: قوله: "ولابن جرير"، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفي سنة 310هـ. وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر، ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر. فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض. وليس جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم، علم ذلك. وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائمًا يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب. ومن الناحية الفقهية، فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع، فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه، لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف. والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره، لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ"تفسير الكشاف" للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون، لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا. قوله: "عن سفيان"، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم، والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني "تيسير العزيز الحميد" يقول: الظاهر أنه الثوري. قوله: "عن مجاهد"، هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: "عرضت المصحف على عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها". قوله: {أفرأيتم}، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى... إلخ. لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: * * * قال: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره". قوله: {اللات}، "كان يلت لهم..." إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت، فهو لات. أما على قراءة التخفيف، فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام، أي: حذف منها التضعيف تخفيفًا. وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله. وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات، عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلهًا، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة، فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد، فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق. وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه، فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله. وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفًا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر إذا بعث بعثًا: بأن لا يدعو قبراَ مشرفًا إلا سووه ، لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور، فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية. قوله: "السويق"، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل. * * * وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباسٍ: وقوله: قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج"، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وان العباس أيضًا يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذًا يحليه زبيبًا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال - والعياذ بالله -، حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالًا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم، لأن الله تعالى يقول: * * * وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قوله: "لعن"، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى "لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "، أي: دعا عليهم باللعنة. قوله: "زائرات القبور"، زائرت: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع: منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى. ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك. ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك. وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: قوله: 1- أن يتخذها مصلى يصلى عندها. 2- بناء المساجد عليها. قوله: "والسرج"، جمع سراج، توقد عليها السرج ليلًا ونهارًا تعظيمًا وغلوًا فيها. وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب، لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله. * المناسبة للباب: إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها، فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها. مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: "زائرات القبور"، والجملة الثانية "المتخذين عليها المساجد والسرج"؟ الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفًا على صاحب القبر، فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج. وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما لو وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟. الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه، فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله، فقد يقال بجوازه، لأنها لا تسرج إلا بالليل، فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة. ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقًا للأسباب الآتية: 1- أنه ليس هناك ضرورة. 2- أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك، فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجًا معهم. 3- أنه إذا فتح هذا الباب، فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت، فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟ الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج، فالذي نرى أنه يمنع نهائيًا. أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه، فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد، فهذا نرجوا أن لا يكون به بأس. والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادًا عظيمًا، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة، فالمسألة ليست هينة. وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب، لهذا الحديث. القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه، لحديث أم عطية: القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور، لحديث المرأة: التي مر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: "اتقي الله واصبري". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فانصرف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها، فقيل لها: هذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فجاءت إليه تعتذر، فيم يقبل عذرها، وقال: ولما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لها ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ مختفيًا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر، فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين..." إلخ. قالوا: فعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز. ورأيت قولًا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبدالله بن أبي مليكة، أليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك. وهذا دليل على أنه منسوخ. والصحيح القول الأول، ويجب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح، فمن ذلك: أولًا: دعوى النسخ غير صحيحة، لأنها لا تقبل إلا بشرطين: 1- تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر، لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: 2- العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: كنت لعنت من زار القبور: بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن. وأيضًا قوله: "كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء، فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذًا، فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ. وثانيًا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة، أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعًا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئًا عظيمًا لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تصبر، لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحًا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحًا، فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح. وأما حديث عائشة، فإنها قالت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ماذا أقول؟ فقال: "قولي: السلام عليكم"، فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل، فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة، إذا من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحًا، فلا يعارض الصريح. وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما، فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبدالله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقًا، لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور، لكنا ننظر بماذا ستجيبه. فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عامًا، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه روي عنها، أنها قالت: * إشكال وجوابه: في قوله: "زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة. الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك، فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات". والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لأن على كثرة الفعل، فـ "زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرًا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب. وأنظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (343/24). * * * * فيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة. * الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنمًا أو قبرًا أو غيره. * الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفًا ورجاء ومحبة وتعظيمًا، لقوله: * * * الثالثة: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح. * الثالثة: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله: * الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله: * الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله، تؤخذ من قوله: وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها. وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: * السادسةـ وهي من أهمها - : معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان: وذلك في قوله: * السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله: "كان يلت لهم السويق"، أي: للحجاج، لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظمًا إلا صاحب دين. * * * الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زوارات القبور. العاشرة: لعنة من أسرجها. * الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق. * التاسعة: لعنة زوارات القبور، أي: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر رحمه الله لفظ: * العاشرة: لعنة من أسرجها، وذلك في قوله: وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك، فله وجه. مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه. والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها أن المرأة يجوز لها قصد الزيارة، فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبلغه حيث كان. * * *
باب ما جاء في حماية المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
قوله: "المصطفى"، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، والمراد به: محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين. قوله: "حماية"، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعًا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك. قوله: "جناب"، بمعنى جانب، والتوحيد، تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. قوله: "وسده كل طريق"، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك، لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله، لعموم قوله: إذًا، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد، لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الغاية. * * * وقول الله تعالى: قوله: والخطاب في قوله: {جاءكم} قيل: للعرب، لقوله: {من أنفسكم}، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العرب، قال تعالى: ويحتمل أن يكون عامًا للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس، أي: ليس من الجن ولا من الملائكة، بل هو من جنسكم، كما قال تعالى: وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم. ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا، لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب. والاحتمال الثاني أولى، للعموم، ولقوله: قوله: {رسول}، أي: من الله، كما قال تعالى: و{من أنفسكم}، سبق الكلام فيها. قوله: {عزيز}، أي: صعب، لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: "أرض عزاز"، أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: {ما عنتم}، {ما}: مصدرية، وليس موصولة، أي: عنتكم، أي: مشقتكم، لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: والفعل بعد {ما} يؤول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟ يختلف باختلاف {عزيز} إذا قلنا: بأن {عزيز} صفة لرسول، صار المصدر المؤول فاعلًا به، أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار إليه ابن مالك في قوله: وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد. قوله: {حريص عليكم}، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم، فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، {بالمؤمنين}: جار ومجرور خبر مقدم، و{رؤوف}: مبتدأ مؤخر، و{رحيم}: مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر. والرأفة: أشد الرحمة وأرقها. والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه. وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى، فلا نفسرها بهذا التفسير، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله - عز وجل - الذي خلقها؟ فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟ الجواب: أبدًا، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة، لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة، لأنها من صفاته، فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن، لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها. وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، أي: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير المؤمنين ليس رؤوفًا ولا رحيمًا، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك في قوله: قوله: {فإن تولوا}، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به، فلم يقل: فإن توليتم. والبلاغيون يسمونه التفاتًا، ولو قيل: إنه انتقال، لكان أحسن. قوله: قوله: {لا إله إلا هو}، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله- عز وجل -. قوله: {عليه توكلت}، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر. والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة. وقوله: {عليه توكلت} مع قوله: قوله: و{رب العرش}، أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش - وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفًا للعرش وتعظيمًا له. ومناسبة التوكل لقوله: وقوله: {العرش} فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسرو الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق، لأن العرش مخلوق، وكذلك الرحيم، والرؤوف، والحكيم. ولا يلزم من اتفاق الاسمين اتفاق المسميين، فإذا كان الإنسان رؤوفًا، فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعًا بصيرًا عليمًا لزم أن يكون مثل الخالق، لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق، فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا. وقوله: وهذه الكلمةـ كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه حين قيل لهم: * (تنبيه): في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها. * * * عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "لا تجعلوا"، الجملة هنا نهي، فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل. قوله: "بيوتكم"، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة. قوله: "قبورًا"، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها، فمنهم من قال: لا تجعلوها قبورًا، أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته. وأجيب عنه بأن من خصائصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفن في بيته لسببين: 1- ما وري عن أبي بكر أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: 2- ما روته عائشة رضي الله عنها: وقال بعض العلماء: المراد بـ وكلا المعنيين صحيح، فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين، لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته، فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا شيئًا قليلًا، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبورًا، أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها، فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة. وفيه أيضًا: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها. إذًا، فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر، فيكون فيه دليل واضح على أن المقابر ليست محلًا للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدًا للشرك. واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين: الأولى: أن يبني عليها مسجدًا. الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها. والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "عيدًا"، العيد: اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملًا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعامًا ودعا الناس، فهذا يسمى عيدًا لأنه جعله يعود ويتكرر. وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئًا فتتردد إليه، مثل: ما يفعل بعض الجهلة في شهر رجب وهو ما يسمى بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون إلى مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحًا، وكانوا سابقًا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات. وأيهما المراد من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الأول، أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟ الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور. وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته، فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان، فإن تسليمهم يبلغه. قوله: "وصلوا علي"، هذا أمر، أي: قولوا: الله صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله: وفضل الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا . والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء. فهذا ليس بصحيح، بل إن صلاة الله على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم. ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى: فمن صلى على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات، وهذه نعمة كبيرة. قوله: كيف تبلغه الصلاة عليه؟ الجواب: نقول: إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب، فالواجب أن يقال: الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه، لكن ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ * * * رواه أبو داود بإسناد حسنٍ ورواته ثقات قوله: "رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات"، هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية، ظاهره أن بينهما اختلافًا، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط، فمعناه أن فيه نوعًا من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن: أن المراد بالثقة ليس غاية الثقة لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحًا لأن ثقة الراوي تعود على تحقيق الوصفين فيه، وهما: العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة، كما إذا خفت العدالة أيضًا تخف الثقة فيه. فيجمع بينهما على أن المراد: مطلق الثقة، ولكنه لا شك فيما أرى أنه إذا أعقب قوله: "حسن" بقوله: "رواته ثقات" أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ: "حسن". ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في "تقريب التهذيب" بقوله: "صدوق يهم"، وأحيانًا يقول: "صدوق"، وصدوق أقوى، فيكون توثيق الرجل الموصوف بصدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم. لا يقول قائل: إن كلمة يهم لا تزيده ضعفًا، لأنه ما من إنسان إلا ويهم. فنقول: هذا لا يصح، لأن قولهم: (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا يخلو منه أحد ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها. * * * وعن علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله: "وعن علي بن الحسين"، هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يسمى بزيد العابدين، من أفضل أهل البيت علمًا وزهدًا وفقهًا. والحسين معروف: ابن فاطمة رضي الله عنها، وأبوه: علي رضي الله عنه. قوله: "يجيء إلى فرجة"، هذا الرجل لا شك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلًا ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر، له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر، فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل. قوله: "فنهاه"، أي: طلب منه الكف. قوله: "ألا أحدثكم حديثًا"، قال: أحدثكم والرجل واحد، لان الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة. و"ألا": أداة عرض، أي: أعرض عليكم أن أحدثكم. وفائدتها: تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به. قوله: "عن أبي عن جدي"، أبوه: الحسين، وجده: علي بن أبي طالب. قوله: (عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ)، السند متصل، وفيه عنعنة لكنها لا تضر، لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع. قوله: قوله: "ولا بيوتكم قبورًا"، سبق معناه. قوله: والمعنى: صلوا علي وسلموا، فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين، لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى. وقوله: "وصلوا علي"، سبق معناها، والمراد: صلوا علي في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده. قوله: "يبلغني"، تقدم كيف يبلغه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: "رواه في المختارة"، الفاعل مؤلف المختارة، والمختارة: اسم الكتاب، أي: الأحاديث المختارة. والمؤلف هو عبد الغني المقدسي، من الحنابلة. وما أقل الحديث في الحنابلة، يعني المحدثين، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثًا بالنسبة للشافعية. فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث، فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحامًا للعلم الآخر، أما الأحناف، فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي (يعني: العقل والقياس)، لقلة الحديث عندهم، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير، والمالكية كذلك، ثم الحنابلة وسط، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتبًا في الحديث. * * * * فيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد. فيه مسائل: * الأولى: تفسير آية براءة، وسبق ذلك في أول الباب. * الثاني: إبعاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته عن هذا الحمى غاية البعد، تؤخذ من قوله: * * * الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه مقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة. * الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، وهذا مذكور في آية براءة. * الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، تؤخذ من قوله: وزيارة قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أفضل الأعمال من جنسها، فزيارته فيها سلام عليه، وحقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من غيره. وأما من حيث التذكير بالآخرة، فلا فرق بين قبره وقبر غيره. * الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة، تؤخذ من قوله: * السادسة: حثه على النافلة في البيت، تؤخذ من قوله: المعنى الأول: أن لا يقبر في البيت، وهذا ظاهر الجملة. والثاني: الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها. * السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة، تؤخذ من قوله: * * * الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه. * الثامنة: تعليل ذلك بإن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، أي: كونه نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجعل قبره عيدًا، العلة في ذلك: أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان، فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره، ولهذا نسلم ونصلي عليه في أي مكان، فيبلغه السلام والصلاة. ولهذا قال علي بن الحسين: * التاسعة: كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه، أي: فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته وتسليمه، ويؤخذ من قوله: "فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم" * * *
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك، لأن هذه الأمة معصومة منه، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما. قوله: وقوله: "تعبد"، بفتح التاء، وفي بعض النسخ: "يعبد"، بفتح الياء المثناة من تحت. فعلى قراءة "يعبد" لا إشكال فيها، لإن "بعض" مذكر. وعلى قراءة "تعبد"، فإنه داخل في قول ابن مالك: وربما أكسب ثان أولًا تأنيثًا أن كان لحذف موهلا ومثلوا لذلك قولهم: قطعت بعض أصابعه، فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض. فإذا صحت النسخة "تعبد"، فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه. قوله: "الأوثان"، جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله. * * * وقوله تعالى: ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات: * الآية الأولى قوله تعالى: {ألم تر}، الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر. والخطاب إما للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، أي: ألم تر أيها المخاطب؟ قوله: قوله: والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل. وقد ذكروا لذلك مثلًا، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟ فقال لهم: أنتم خير من محمد، ولهذا جاء في آخر الآية: قوله: والجب: قيل: السر، وقيل: هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك. والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كعلماء الضلال، والمطاع كالأمراء، فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم. والمراد من كان راضيًا بعبادتهم إياه، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابديه، لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانًا، لمجاوزتهم الحد بذلك. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتًا. وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو * * * وقوله تعالى: * الآية الثانية قوله تعالى: وقوله: {أنبئكم}، أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر. قوله: {بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ}، شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله. وقوله: {ذلك} المشار إليه ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذي على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ليسوا على الحق، فقال الله تعالى: قوله: قال ابن مالك: إلى أن قال: والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء، أي: بشر من ذلك جزاء عن الله. قوله: {عند الله}، أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابًا. قوله: قوله: {وغضب عليه}، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418). والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله - عز وجل ـ، فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله، فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي. قوله: والإشارة هنا إلى اليهود، فإنهم لعنوا كما قال تعالى: وجعلوا قردة بقوله تعالى: قوله: {وعبد الطاغوت}، فيها قراءتان في {عبد} وفي {الطاغوت}: الأولى: بضم الباء {عبد}، وعليها تكسر التاء في {الطاغوت}، لأنه مجرور بالإضافة. الثانية: بفتح الباء {عبد} على أنه فعل ماض معطوف على قوله: {لعنه الله} صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد {من} مع طول الفصل، لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت مَنْ لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة، فعلى هذه القراءة يكون {عبد} فعلًا ماضيًا، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود على "من" في قوله: وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه، لأن الفاعل في صلة الموصول هو {الله}، والفاعل في عبد يعود على "من". وعلى كل حال، فالمراد بها عابد الطاغوت. فالفرق بين القراءتين بالباء فقط، فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة. والطاغوت على قراءة الفعل في {عبد} تكون مفتوحة {عبد الطاغوت}، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة {عبد الطاغوت}. وذكر في تركيب {عبد} مع {الطاغوت} أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين {عَبَدَ} {عَبُدَ}. * * * وقوله تعالى: * الآية الثالثة قوله تعالى: وقوله: * فوائد الآيات السابقة: من فوائد الآية الأولى ما يلي: 1- أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيبًا من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت. 2- أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية، لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دون من المعاصي. 3- وجوب إنكار الجبت والطاغوت، لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم، فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت. 4- ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: * ومن فوائد الآية الثانية ما يلي: 1- تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قومًا غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين، فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟! الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟ والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء. 2- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله، لقوله: 3- سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت. 4- إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء، لقوله: {لعنه الله}، فإن اللعن من صفات الأفعال. 5- إثبات الغضب لله، لقوله: {وغضب عليه}. 6- إثبات القدرة لله، لقوله: وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
والجواب: لا، لما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: 7- أن العقوبات من جنس العمل، لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهًا بالإنسان، فعلوا فعلًا ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكًا، فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تمامًا، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى: 8- أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت، لقوله: {وعبد الطاغوت}، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه، لأنه عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله. 9- وفي الآية نكت نحوية في قوله: {عليه} و{منهم} في قوله تعالى: والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفى الجمع المعنى، وذلك أن {من} اسم موصول صالحه للمفرد وغيره، قال ابن مالك: ومن وما وأل تساوي ما ذكر
لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ. وقال: * ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي: 1- ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته. 2- أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور، لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد، لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام غلوا فيهم. 3- أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي حين بعثه: * * * عن أبي سعيد (رضي الله عنه)، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوله في الحديث: "لتتبعن"، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن. قوله: "سنن من كان قبلكم"، فيها روايتان: "سُنَن" و "سَنَن". أما "سنن" بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة. وأما "سنن"، بالفتح: فهي مفرد بمعنى الطريق. وفعل تأتي مفرده مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب. وقفوله: (من كان قبلكم)، أي: من الأمم. وقوله: ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان. السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئًا من هذه السنن. فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين، فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح: ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة. ومنها: دعاء غير الله، وقد جاء في هذه الأمة. ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة. ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب، فقد قالت اليهود: ومنها أكسل السحت، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: أكل الربا، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: التحيل على محارم الله، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة. ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظًا ومعنى، كاليهود حين قيل لهم: قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود في (حطة) فقالوا: (حنطة). فأبوا وقالوا حنطة لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى **
فأبى وزاد الحرف للنقصان ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول شيخه. فإذا تأملت كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجدته مطابقًا للواقع: الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار، فلا يقول أحد سأحسد وسآكل الربا، وسأعتدي على الخلق، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك، فمن قال ذلك، فإننا نقول له: أخطأت، لأن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ثم نقول لهم أيضًا: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن. فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه ، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل. ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هذه الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون. فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى. والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلًا في الأمم السابقة. ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثًا في هذه الأمة. * أما مناسبة الحديث للباب: فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان. قوله: "حذو القذة بالقذة"، حذو بمعني: محاذيًا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن، أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة. والقذة: هي ريشة السهم، والسهم له ريش لابد أن تكون متساوية تمامًا، وإلا، صار الرمي به مختلًا. قوله: )حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه(، هذه الجملة تأكيد منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمتابعة. وجحر الضب من اصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولى أن ندخله، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك على سبيل المبالغة، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "قالوا اليهود والنصارى" يجوز فيها وجهان: الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟ الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟ وعلى كل تقدير، فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء. واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودًا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله، أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل. والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصر، وقيل: من النصرة، كما قال تعالى: قوله: "قال فمن"، من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير، أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم اليهود والنصارى. * من فوائد الحديث: 1- ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، لأنه من سنن من قبلنا، وقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أننا سنتبعهم. 2- ويستفاد أيضًا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله. 3- أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنة. 4- استعظام هذا الأمر عند الصحابة، لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام، أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. 5- أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعد من الحق، لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، وأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى: فإذا كان طول الأمد سببًا لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في "البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه، أنه قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: والجواب: جنس الرجال خير، قال تعالى: فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في بعض الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم، فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم. أما الصحابة، فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل، لأنه لم يدرك الصحبة. مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: "لتتبعن سنن..." إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟ الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين، فإن لدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله، لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. * (تنبيه): قوله: * * * ولمسلم عن ثوبان (رضي الله عنه)، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض). قوله: "زوى لي"، بمعنى جمع وضم، أي: جمع له الأرض وضمها. قوله: "فرأيت"، أي: بعيني، فهي رؤية عينية، ويحتمل أن تكون رؤية منامية. قوله: "مشارقها ومغاربها"، وهذا ليس على الله بعزيز، لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سيبلغ ملك أمته منها. وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، أو أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوي نظره حتى رأى البعيد؟ الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد؟ وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أي أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها، فالله على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يجمع له ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها. * اعتراض وجوابه: فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع، فليس بموافق للواقع، لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المجرد، فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟ والجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير، إذ قوة الله - سبحانه - أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك. وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة. وقوله: "فرأيت مشارقها ومغاربها"، أي أماكن الشرق والغرب منها. قوله: "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها"، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيبلغ ملكها ما زوي للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها، وهذا هو الواقع، فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعًا بالغًا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قوله: والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر، فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة. وقوله: "أعطيت" هل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطيها في حياته، أم بعد موته؟ الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته، فهو كالمعطى له، لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. * * * وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا". قوله: السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وعامة، أي: عمومًا تعمهم، هذه دعوة. قوله: "وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم" أي لا يسلط عليهم عدوًا. والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: "من سوى أنفسهم". ومعنى: "يستبيح": يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام. والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم. قوله: "إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد"، اعلم أن قضاء الله نوعان: 1- قضاء شرعي قد يرد، فقد يريده الله ولا يقبلونه. 2- قضاء كوني لا يرد، ولابد أن ينفذ. وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى: ومثال القضاء الشرعي: قوله تعالى: ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني، فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق، فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوًا واستكبارًا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم. وفي قوله: واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة، فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئًا إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى: خلافًا لما أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفًا من الله، لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: فنحن نقول: إن الله - جل وعلا - لا يفعل شيئًا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علمًا؟ الجواب: لا يلزم، لأننا أقصر من أن نحيط علمًا بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها. والمقصود من قوله: والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل القضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة، فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح. كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله - عز وجل - منعه حتى نسأل لكن من الأشياء ما لا تقتفي الحكمة وجوده وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل أو يؤخر له ويدخر له عند الله عز وجل، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب، فإننا نجزم بأنه ادخر له. وقوله: والثانية: قوله: "أن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا". وهذه الإجابة قيدت بقوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا" إذا وقع ذلك منهم، فقد يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، فكأن إجابة الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجملة الأولى بدون استثناء، وفى الجملة الثانية باستثناء "حتى يكون بعضهم...". وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدًا، فكل من يدين بدين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة، فإنه لا يهلك الآخرون. فإذا صار بعضهم يقتل بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، فإنه يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع، فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونًا في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، سلط الله عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطًا لا نظير له، فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرًا على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونه، وهي حية تشاهد ثم تموت. قال ابن الأثير في "الكامل": " لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فأنا أقدم رجلًا وأوخر أخرى، فمن الذين يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكن نسيًا منسيًا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي... "، وذكر كلامًا طويلًا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدًا من ذلك، فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور. وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضًا، وسبي بعضهم بعضًا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم. * * * ورواه البرقاني في "صحيحه"، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف، لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم قوله: "إنما أخاف على أمتي الأثمة المضلين"، بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين. والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إمامًا في الخير أو الشر، قال تعالى في أئمة الخير: وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: والذي في حديث الباب: "الأئمة المضلين"، أئمة الشر، وصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم. والمراد بقوله: "الأئمة المضلين": الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان، فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له. قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة متسجابة، لصرفتها للسلطان، فإن بصلاحه صلاح الأمة. قوله: "إذا وقع عليهم السيف..." إلخ، هذا من آيات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا حق واقع، فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا. قوله: وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين، أو الأمران معًا؟ الظاهر أن المراد جميع ذلك. وأما الحي، فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء، فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ ـ والعياذ بالله ـ ويفسد، فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره. قوله: قوله: وقوله: "كذابون ثلاثون" هل ظهروا أم لا؟ الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم، فهم ينتظرون. * * * يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى" . قوله: "كلهم يزعم"، أي: يدعي. قوله: "وأنا خاتم النبيين"، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: "لا نبي بعدي"، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فليس تشريعًا جديدًا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه أخبر به مقررًا له. قوله: هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيًا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئامًا يعبدون الأصنام، وأن أناسًا يدعون النبوة، فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدًا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال: والطائفة: الجماعة. وقوله: "على الحق"، جار ومجرور خبر تزال. قوله: "منصورة"، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالًا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضًا منصورة. قوله: "لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم"، خذلهم، أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم، لأن الأمور بيد الله، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "حتى يأتي أمر الله"، أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلى شرار الخلق، فعليهم تقوم الساعة. الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: "حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان". وقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة"، هذه لم يحدد مكانها، فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما. فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحد منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم حتى يأتي أمر الله. مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث، فما مدى صحة هذا القول؟ الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما اشبه ذلك، فهذا ليس بصحيح، لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة، لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه... إلخ. فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة، فهو من أهل الحديث بالمعنى العام. وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحًا. فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلًا لا يعتبر اصطلاحًا، من المحدثين، ومع ذلك، فهو رافع لراية الحديث. والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث. وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكًا بالحديث هم الذين يعتنون به. ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحًا، فيخرج غيرهم. فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحًا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به، فيحنئذ يكون صحيحًا. * * * * فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف. فيه مسائل: * الأولى: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى: * الثانية: تفسير آية المائدة، وهي قوله تعالى: * الثالثة: تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: * * * الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين. السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: تصريحه بوقوعها - أعني: عبادة الأوثان - . * الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية. وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله. * الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة، لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلًا من المؤمنين، فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان. * السادسة - وهي المقصودة بالترجمة -: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. * السابعة: تصريحه بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار إليها رحمه الله هي قوله: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان"، وحديث أبي سعيد هو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها. * * * الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة. * الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدًا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة. والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين، فتتبعهم، وقتل كثيرًا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه. ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفى القرآن أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين، فكيف صادقًا، وكيف يصدق من هذا التناقض؟ ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. * * * التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة. * التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة. يؤخذ هذا من آخر الحديث: * العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم على خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، * الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق. * الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم. * * * منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول. فمما في هذا الحديث: إخباره بأن الله - سبحانه وتعالى - زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه. ومنها: إخباره أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر. ومنها: إخباره بإجابة دعوته لأمته في الإثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا... إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها، فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع، فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك، فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا. ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضًا وسبي بعضهم بعضًا، هذا أيضًا واقع. ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته. ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر: "هذا الحصر بالثلاثين لا يعني انحصار المتنبئين بذلك، لأنهم أكثر من ذلك". قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى، أي أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا - والله أعلم - هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث. ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر. قال الشيخ - رحمه الله -: (مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول). * * * الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين. * الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد، فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنه متبوعون، فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء له التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم، فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم، لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس. * * * الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان. * الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. * * *
|